الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قال: وإذا رغب أهل الحرب في مفاداة أسارى المسلمين بالمال فلا ينبغي للمسلمين أن يفادوهم بالأسراء ولا بالكراع والسلاح لأن منفعتهم في دفع المال إليهم دون منفعتهم في رد المقاتلة أو دفع آلة القتال إليهم ألا ترى أن حمل الأموال إليهم للتجارة جائز وحمل السبي والكراع والسلاح إليهم للتجارة حرام. وإن كرهوا المفاداة بالمال ورغبوا فيه بالكراع والسلاح فلا ينبغي لهم أن يفادوهم بالأسراء لأن حكم دفع الكراع والسلاح إليهم أهون من حكم رد المقاتلة عليهم ألا ترى أنه يجب قتل المقاتلة منهم إذا تمكن المسلمون من ذلك ولا يجب إتلاف الكراع والسلاح عليهم. فإن كرهوا ذلك أيضاً فحينئذ يجوز المفاداة بالأسراء ولو رغبوا في المفاداة بمال عظيم فيه إجحاف بالمسلمين في بيت مالهم فإنه يجوز فماداتهم بالأسراء دون المال لأن هذه حالة الضرورة وعند الضرورة تجوز مفاداة الأسراء منهم بالمال على رواية الكتاب وفيه تحصيل منفعة المال للمسلمين فلأن يجوز مفاداة الأسراء بالأسراء لإبقاء المال الذي يحتاج المسلمون إليه في أيديهم كان أولى. ولو أن أقواماً من أهل الحرب استأمنوا إلى عسكر المسلمين للفداء فقالوا: أمنونا على أنفسنا وأموالنا وما جئنا به من الأسراء ففعل المسلمون ذلك ثم لم يتفق الصلح والمفاداة فأرادوا الرجوع فإنهم لا يمكنون من أن يرجعوا إلى دارهم بأحد من المسلمين وقد بينا هذا الحكم فيما إذا استأمنوا إلى دار الإسلام فكذلك إذا استأمنوا إلى العسكر في دار الحرب ولكن يؤخذ الأحرار والحرائر من المسلمين أو من أهل الذمة منهم مجاناً شاءوا أو أبوا لأنه ظالمون في حبس الأحرار. وكذلك كل من لم يملكوه بالأسر والإحراز فأما من ملكوه من العبيد والإماء فإنا نأخذهم منهم ونعطيهم قيمتهم لأنهم ملكوهم بالإحراز وقد أعطيناهم الأمان على أموالهم فللوفاء بالأمان يعطون قيمتهم بعد الأخذ منهم لتعذر تركهم حتى يرجعوا بالمسلمين إلى دار الحرب فيستخفوا بهم. ثم إذا أخرجهم العسكر إلى دار الإسلام فإن شاء مواليهم أخذوهم بتلك القيمة لأن سلامتهم للجيش كان بما أدوا من القيمة. بخلاف ما لو أخذوهم قهراً بغير أمان فإن هناك للموالي حق الأخذ مجاناً قبل القسمة وهذا بخلاف ما إذا استأمنوا إلى دارنا ومعهم العبيد فأجبروا على بيعهم فباعوهم ثم حضر الموالي لأن هناك حصلوا في دارنا وليس للموالي حق الأخذ فيهم فبالانتقال من ملك إلى ملك لا يثبت لهم حق الأخذ وها هنا ما حصلوا في دارنا إلا وحق الأخذ للموالي ثابت فكان هذا وما لو دخل مسلم إليهم بأمان فاشتراه وأخرجهم سواء. وإن خرجوا إلى العسكر وليس معهم الأسراء وقد كانوا خبئوهم في موضع إلا أنهم حيث لا يكونون ممتنعين منا في ذلك الموضع فهذا والأول سواء يؤخذ منهم العبيد والإماء ويعطون قيمتهم لأنهم ما لم يصلوا إلى مأمنهم فهم في أماننا وذلك يمنع أخذ ملكهم منهم مجاناً. وإن كانوا خبئوهم في مأمنهم ومنعتهم والمسألة بحالها فبعثنا سرية فأصابتهم فلا سبيل لأهل الحرب عليهم في طلب العين ولا القيمة لأنهم لما وصلوا إلى مأمنهم فقد انتهى حكم الأمان بينا وبينهم ثم أصبنا ما أصبنا من قوم هم حرب لنا فكان هذا وما قبل مجيئهم بأمان في الحكم سواء. وإذا خرجت العبيد والإماء إلى دار الإسلام أخذهم الموالى قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة إن أحبوا وإن وقع الصلح فيما بيننا وبينهم على المفاداة بالمال ثم أصابهم سرية من المسلمين في الموضع الذي خبئوهم فيه فإن كان ذلك الموضع بالقرب من عسكر المسلمين حيث لا يكون لهم فيه منعة فعلى الأمير أن يفي لهم بالصلح ويعطيهم المال وإن كانوا أصابوهم في منعتهم فقد انتقض الصلح وليس على المسلمين أن يعطوهم شيئاً من المال لأن حكم الأمان لم يتناول ما في منعة أهل الحرب وقد تناول ما في منعة المسلمين فحالهم إذا كانوا بالقرب من العسكر كحالهم إذا كانوا معهم في أيديهم وحالهم إذا كانوا في منعتهم كحالهم قبل أن يستأمنوا فإذا حصل مقصود المسلمين بطريق القهر المباح قلنا: ليس عليهم أداء شيء من المال لأنهم ما سلموا لنا بحكم الصلح شيئاً ولكن تحقق عجزهم عن ذلك فينتقض الصلح. وإن لم يعرف المسلمون أن الذين أخذوهم في غير منعة كانوا مع أهل الحرب الذين جاءوا للمفاداة أو لم يكونوا وقال أهل الحرب: نحن جئنا بهم فإنه لا يقبل قولهم في ذلك لأنهم يدعون أمراً خلاف الظاهر ويدعون على المسلمين وجوب تسليم المال إليهم فلا يقبل قولهم إلا بحجة. فإن أقاموا البينة شاهدين مسلمين أو رجلاً وامرأتين على ذلك وجب تسليم المال إليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن كان الشاهدان من الأسراء قبلت شهادتهما لأنه لا تهمة في هذه الشهادة وإن لم يشهدوا بذلك ولكن قال بعض الأسراء: كنا معهم وهم جاءوا بنا وأنكر ذلك بعضهم ففي القياس لا شيء لأهل الحرب من الفداء لأن الذين أقروا من الأسراء يلتزمون بإقرارهم الأمير والمسلمين تسليم المال إليهم وإقرار المرء لا يكون حجة على غيره. وفي الاستحسان إقرار من أقر منهم جائز على نفسه وهو غير جائز على أصحابه فيدفع لهم حصة المقرين مما وقع عليه الصلح من المال اعتباراً لإقرار بعضهم بإقرارهم جميعاً بذلك وهذا لأنه لا تهمة في هذا الإقرار فقد خرجوا من الأسر سواء جاءوا معهم أو جاءوا دونهم ثم هم يقرون بأنهم كانوا في أيديهم والإقرار باليد بمنزلة الإقرار بالرق ثم إقرار مجهول الحال بالرق على نفسه صحيح فكذلك إقرار مجهول الحال في حق اليد باليد على نفسه لغيره يكون صحيحاً. وكذلك لو كان فيهم صغار يعبرون عن أنفسهم وليس معهم آباؤهم فإن إقرار هؤلاء بالرق على أنفسهم يصح فكذلك باليد فأما من كان معه أبواء فهو غير مصدق إلا أن يصدقه أبواه لأنه في يد أبويه إذا كانا معه ولا قول له في الإقرار باليد على نفسه للمستأمن من أهل الحرب. وإن أقر النساء والصبيان أن أهل الحرب هم جاءوا بهم وشهد شاهدان من الرجال أنهم لم يجيئوا بهم وإنما جاء بهم جميعاً قوم آخرون من أهل الحرب فالشهادة أولى بالعمل بها لأنها حجة حكمية متعدية إلى الناس كافة وحجة الإقرار لا تعدو المقر ولأنه وجب القضاء بالشهادة في حق غير المقرين وإذا قضي بذلك فقد صار المقر مكذباً في إقراره حكماً وبعد ما صار مكذباً لا يعتبر إقراره في حق نفسه فكيف يعتبر في حق وجوب تسليم فدائه على غيره. ولو جاء بهم قوم من أهل الحرب سوى الذين صالحوا على الفداء فلما أصابهم المسلمون قالوا: قد كنا مع أصحاب الفداء وهم حلفونا لحفظهم لم يصدقوا على ذلك لأنهم يدعون أمراً خلاف ما يشهد به الظاهر يريدون أن يلزموا المسلمين تسليم الفداء إليهم فلا يقبل قولهم إلا بحجة وللمسلمين ما أصابوا منهم بغير فداء. ولو بعث أهل الحرب إلى المسلمين إنا نريد أن نفاديكم بناس من المسلمين الرجال بالرجال والنساء بالنساء والصبيان بالصبيان فرضي المسلمون بذلك ثم جاءوا بالأسراء ممن لم يملكوهم فأراد الأمير أن يأخذهم ولا يعطيهم فداءهم فهذا واسع له أن يفعله لأن أهل الحرب لم يملكوهم وهم الظالمون في حبسهم وقد بينا أن إعطاء الأمان على التقرير على الظلم لا يجوز. ألا ترى أنهم لو أسلموا أو صاروا ذمة أخذوا منهم شاءوا أو أبوا فكذلك إذا استأمنوا عليهم لأن مراعاة الأمان لا تكون أوجب من مراعاة حرمة الإسلام أو عقد الذمة. وإن كانوا فادوهم بمال فالمستحب لهم الوفاء بما عاملوهم عليه لئلا ينسبوا إلى الغدر وليطمئنوا إليهم في مثل هذا في المستقبل بخلاف الأسارى أو الكراع والسلاح إذا وقعت المفاداة بها لأن الامتناع من رد ذلك عليهم واجب شرعاً وللاستحباب لا يجوز ترك الواجب فأما الامتناع من دفع المال إليهم فليس بواجب شرعاً وقد بينا أنه يجوز دفع هذا المال إليهم فلاستحباب الوفاء بما وقع الصلح به عليه قلنا: ينبغي أن يدفع المال إليهم. غير أن في الكراع والسلاح والرءوس إن رأى الإمام أن يعطيهم فيه ما شرطه لهم فعل ذلك كراهة أن ينسبوا إلى الغدر أو يحذروا المسلمين بعد ذلك في مثله عند حاجة المسلمين إليه فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يفي الإمام لهم بما صالحهم من السلاح وغيره حتى يطمئنوا إليه في المستقبل قلنا: هذا ليس بشيء فإنهم وإن لم يطمئنوا إليه فذلك لا يضر المسلمين شيئاً لأن أشد ما بحضرتهم ألا يأتوا بالمسلمين بعد هذا حتى يأخذوا فداءهم وبهذا الموهوم لا يجوز للإمام رد المقاتلة أو آلة القتال عليهم ليتقووا به على المسلمين. ولو كانوا جاءوا بعبيد وإماء والمسألة بحالها فإن الإمام يأخذ العبيد والإماء منهم إذا ظفر بهم لحرمة الإسلام ولا يعطيهم الفداء من الأسراء من أهل الحرب ولا من الكراع والسلاح ولكنه ينظر إلى قيمة ما كان شرطه لهم فيعطيهم ذلك وهذا مستحب في الفصل الأول واجب في هذا الفصل لأن أهل الحرب قد ملكوهم حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً لهم فلا يكون للإمام أن يأخذهم منهم مجاناً بخلاف الأول. فإن كانوا فادوهم بالمال سلم المال إليهم وليس للموالي عليهم سبيل لأنهم حصلوا في دار الإسلام ولا حق للموالى في أخذهم فلا يثبت حقهم بعد ذلك. وإن لم يظفر المسلمون بأسرائهم من الأحرار حتى فادوهم بأعدادهم من أسراء المشركين فأخذ المشركون أسراءهم وأعطوا المسلمين أسراءهم فلا سبيل على أسراء المسلمين فيما فدوا به ولكنهم أحرار لا سبيل عليهم وإن كان فيهم أمهات أولاد أو مدبرون ردوا إلى مواليهم بغير شيء إلا أن يكونوا هم أمروا بالمفاداة بذلك لأن ذلك كان حقاً على المسلمين وقد أعطوه في الفداء لمنفعة رجعت إلى المأسورين. فإن كان بغير أمر الموالي من المملوكين منهم فهم متبرعون في ذلك وإن كان بأمر الموالي يثبت حق الرجوع عليهم لأنهم التزموا ذلك للمسلمين حين أمروهم بالمفاداة بهم. وإن كانوا عبيداً وكانت المفاداة بغير أمر الموالي فلا سبيل للموالي عليهم لأن الأمير صار كالمشتري لهم من الذين جاءوا بهم بما فاداهم به. وإن كان بأمر الموالي رجع عليهم بقيمة ذلك شاءوا أو أبوا لأنه صار كالنائب عنهم في شرائهم ما فاداهم به ثم زاد في التفريع فذكر ما تقدم بيانه من المكاتب وغيره من المأسورين إذا فاداه الأمير بأمره أو بغير أمره وقد بينا هذا الحكم فيما إذا فاداه المستأمن من المسلمين في دار الحرب فكذلك إذا فاداه إمام المسلمين في دار الإسلام. فإن كان في الأسراء رجل من أهل الذمة فليس على الإمام أن يفاديه من مال بيت المال لأنه مال للمسلمين فإنما يفادي به الأسراء من المسلمين دون أهل الذمة. إلا أن يكون هذا مقاتلاً له جزاء وغناء أو كان دليلاً في أرض المشركين يدل على عوراتهم فرأى الإمام أن يفاديه من مال بيت المال فلا بأس بذلك لأن في تخليصه منفعة للمسلمين ومال بيت المال معد لذلك. وكذلك إن رأى أن يفاديه بأسير قد وقع في سهم رجل ويعوضه قيمته من بيت المال فلا بأس بذلك لأن هذا منه على وجه النظر للمسلمين. وإن كان الأسير من المسلمين فإنه يجب على الإمام مفاداته بمال من بيت المال إذا لم يكن فيه إجحاف بالمسلمين فأما عند الإجحاف بهم لا يجب ذلك أرأيت لو طلبوا مائة ألف دينار في فداء أسير من المسلمين أكان يجب ذلك على الإمام هذا مما لا يقوله أحد فإن طلبوا فداءه بأسير من أهل الحرب قد وقع في سهم رجل وكره ذلك الرجل دفعه في الفداء فإن الإمام يأخذ منه شاء أو أبى ويعوضه قيمته من بيت المال لأن تخليص المسلم من الأسر فرض عليه وعلى كل مسلم بحسب القدرة والإمكان فإن امتنع منه ناب الأمير مقامه وعوضه قيمته من بيت المال بمنزلة ما لو استحق سهمه وهذا بناء على قول محمد رحمه الله في جواز المفاداة بالأسراء بعد القسمة. ولو قال أهل الحرب: نعطيكم أسيراً بأسيرين أو بثلاثة من أسرائنا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن رأى المنفعة ظاهرة للمسلمين في ذلك بأن كان مبارزاً له جزاء وغناء فليفعل ذلك وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة للمسلمين في ذلك ولكن فيه بعض جرأتهم وتحكمهم علينا لم يجبهم إلى ذلك لأنه نصب ناظراً فلا يدع النظر للمسلمين فيما يفعله لهم بحال ألا ترى أنهم لو طلبوا بأسير واحد من المسلمين مائة من أسرائهم لم يجبهم إلى ذلك فهذا مثله. ولو كان أخو ملكهم أو ابنه أسيراً في أيدينا وقد أسلم فقالوا: نعطيكم أسيركم المسلم على أن تردوا علينا أخا الملك لم يسعنا أن نرده عليهم لأنه مسلم ومفاداة المسلم بالمسلم لا تجوز لأن المقصود بالمفاداة تخليص المسلم مما يخاف عليه من فتنتهم. فإن طابت نفسه بذلك فقال: ردوني عليهم وخذوا أسيركم فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان مأموناً على إسلامه بأن حسن إسلامه فعل ذلك برضاه وإن كان غير مأمون على ذلك لم يفعله وإن رضي به لأنه إذا لم يكن مأموناً على ذلك فالظاهر أنه إنما رضي به ليرجع إلى ما كان عليه ولا يجوز تمكينه من ذلك بحال. ألا ترى أنه لو كان ارتد فينا فقالوا لنا: خذوا أسيركم وأعطونا ذلك المرتد لم يسعنا أن نفعل ذلك ولكنا نعرض الإسلام على المرتد فإن أسلم وإلا قتلناه فكذلك إذا خيف عليه الردة بعد المفاداة به فأما إذا كان لا يخاف ذلك عليه فإنما لا يفادى به قبل رضاه لما فيه من تعريضه للقتل والظاهر أنه لا يرضى بذلك ما لم يكن منهم آمناً على نفسه فكان حاله الآن كحال المفاداة بالذمي أو بالمستأمن منهم في دارنا إذا رضي به وقد بينا أن ذلك جائز فهذا مثله. ولو جاء مستأمن منهم بعشرة من أسراء المسلمين على أن يفادي بهم غيره وقد سماهم بأعيانهم فوجدهم قد قتلوا أو ماتوا ثم رجع فأراد أن يرجع بالأسراء الذين أخرجهم منع من ذلك فإن كانوا أحراراً أخلى الأمير سبيلهم وقال له: الحق ببلادك فلا شيء لك لأنه ما كان يملكهم. وإن كانوا عبيداً أو إماء أجبره على بيعهم بمنزلة ما لو جاء بعبيد معه بأمان فأسلموا في دارنا وإن كان شرط علينا في الأمان أن يشتري أولئك النفر ونسلمهم له فأبى مواليهم البيع فإنه ينبغي للأمير أن يفي لهم بالشرط إذا أخذ الأحرار منهم فيعطيهم قيمة الذين شرطهم له دنانير أو دراهم وإن باعهم مواليهم فينبغي للإمام أيضاً ألا يدعه يرجع بأحد منهم إلى دار الحرب إن كانوا أسلموا وهذا وما لو جاء بعبيد من المسلمين في الحكم سواء. وإذا توادع أهل الإسلام وأهل الحرب على أن يتهادنوا سنة حتى ينظروا في أمورهم وأراد بعضهم من بعض أن يعطوهم رهناً بذلك على أن من غدر من الفريقين فدماء الرهن للآخرين حلال فلا بأس بإعطاء الرهن على هذا إذا رضي بذلك الرهن من المسلمين لأنه يؤمن على الرهن من المسلمين من الرجوع عن الإسلام والظاهر أنهم لا يرضون بذلك إذا كانوا يخافونهم على أنفسهم وقد بينا أنه يجوز المفاداة بالمسلم في مثل هذه الحالة فلأن يجوز تسليمه إليهم رهناً وفيه منفعة للمسلمين أولى. ولا ينبغي أن يكره الإمام أحداً من المسلمين على ذلك إلا أن يكون للمشركين شوكة شديدة ويخاف الملمون على أنفسهم منهم فعند ذلك لا بأس بإكراه الرهن على ذلك لما فيه من المنفعة لعامة المسلمين وفي الامتناع من هذا الصلح خوف الهلاك لجماعة المسلمين وفي الإقدام عليه دفع هذا الخوف عن جماعة المسلمين فيثبت للإمام هذه الولاية وإن كان يخاف فيه على خاص من المسلمين وهم الرهن للأصل المعروف وهو أن من ابتلي ببليتين فعليه أن يختار أهونهما فإن أخذ كل واحد من الفريقين من صاحبه رهناً فغدر المشركون وقتلوا الرهن الذي في أيديهم فليس يحل للمسلمين أن يقتلوا ما في أيديهم من الرهن ولا أن يسترقوهم لأنهم كانوا آمنين عندنا فلا يبطل حكم أمانهم بغدر المشركين لقوله تعالى: ولكن المسلمين لا يدعونهم يرجعون إلى بلادهم ويجعلونه ذمة لأنهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تعذر فكانوا محتبسين في دارنا على التأبيد برضاهم والكافر لا يتمكن من المقام في دارنا على التأبيد مصراً على كفره إلا بالجزية قال الشيخ الإمام رضي الله تعالى عنه وحكي أن الدوانقي كان جرى هذا الشرط بينه وبين قوم من أهل الحرب ثم إنهم غدروا فقتلوا رهن المسلمين فجمع علماء عصره وسألهم عما يصنع برهنهم فقالوا له: لك أن تقتلهم لمكان الشرط الذي شرطوا وفيهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ساكت فقال له: مالك لا تتكلم فقال: إن قالوا لك هذا عن رأي فقد أخطئوا وإن قالوا بناء على هواك فقد غشوك فليس لك أن تتعرض لأحد منهم بالقتل ولا بالسبي فقال: ولم وقد شرطوا ذلك قال: لأنهم قد شرطوا عليك ما لا يحل وشرطت عليهم ما لا يحل في الشرع وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل قال الله تعالى: قال: لم قال: لأنهم احتبسوا عندك برضاهم إلى رد الرهن وقد فات ذلك فاستحسن قوله وأثنى عليه ورده بجميل فإن قيل: فإذا كان هذا الشرط مما لا يحل فلماذا قال: لا بأس بإعطاء الرهن على هذا قلنا: لأن المسلمين احتاجوا إليه وليس في مجرد الشرط فوات شيء ولا إثبات شيء لا يمكن تداركه بخلاف قتل الرهن بذلك الشرط. ولو أنهم حين أعطوا الرهن وأخذوا الرهن من المسلمين قدر المسلمون على أن يأخذوا منهم رهنهم فلا بأس بأن يأخذوهم لما بينا أنهم ظالمون في حبس رهن المسلمين ولا يجوز إعطاء الأمان على التقرير على الظلم بعد التمكن من إزالته. ثم لا يرد رهنهم حتى يأمنوا مما كانوا يخافون فإذا أمنوا ذلك ردوا عليهم رهنهم ولا يكون هذا غدراً من المسلمين وقد سبق نظير هذا فيما إذا خاف أمير العسكر من المستأمنين في المعسكر فإنه يجوز له أن يخرجهم معه إلى دار الإسلام شاءوا أو أبوا حتى يأمن مما كان يخاف ثم يردهم إلى دارهم فهذا قياسه لأنه رهنهم في أمان منا. وإن أبى الذين في أيديهم الرهن أن يعطوا لرهن إلى المسلمين إلا بقتال فلا بأس بقتالهم وقتلهم على ذلك لأن الذين في أيديهم قوم من أحرار المسلمين يريدون أن يدخلوهم بلادهم بغير حق فلا يسع المسلمين إلا أن يقاتلوا لتخليصهم من أيدي الظالمين إذا قدروا على ذلك. وإن كانوا قالوا للمسلمين: لا نقاتلكم أبداً ولكن لا نعطيكم الرهن حتى تردوا رهننا فإن كان المسلمون يخافونهم في الأمر الذي وادعوهم من أجله فلهم ألا يعطوهم رهنهم ولكن ببدء ونهم بالقتال لأخذ رهن المسلمين إذا قدروا على ذلك وإن كانوا قد أمنوا فليردوا إليهم رهنهم لأنه لا حاجة بهم إلى حبس الرهن الآن بخلاف الأول فهناك بهم حاجة إلى حبس الرهن لإزالة الخوف عن المسلمين فلا ينبغي أن يردوا عليهم رهنهم ولكن يقاتلونهم لاستنقاذ المسلمين من أيديهم. وإن كان الذين أخذوا الرهن قد انتهوا بالرهن إلى منعتهم وقد وادعهم المسلمون فليس ينبغي للمسلمين أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم بخلاف ما قبل وصولهم إلى منعتهم لأن هناك إنما يقاتلونهم ليستردوا الرهن لا لنقض الموادعة وبعدما وصلوا إلى منعتهم القتال لا يكون على الرهن بل على نقض الموادعة وقد صحت الموادعة فذلك يمنعنا من قتالهم حتى ننبذ إليهم. قال: ولو جاءوا بأسراء المسلمين للمفاداة فنادوا بالفداء في موضع هم فيه ممتنعون ثم رجعوا بهم حين لم يتفق لهم المفاداة فتبعهم المسلمون وأخذوهم منهم وأسروهم وأخذوا أموالهم فلا بأس بذلك كله لأنهم ما كان لهم منا أمان قط ثم إن كان فيهم عبد وأمة أخذه مولاه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة لأنهم أصابوهم بطريق الاغتنام. وهذا بخلاف ما إذا استأمنوا إلينا ثم انصرفوا بهم حين لم يتفق لهم المناداة وقد بينا أن هناك إذا أخذ منهم العبيد والإماء قبل أن يصلوا إلى منعتهم أعطوهم بمتهم لأنهم كانوا في أمان منا ولا بأس بأن نقاتلهم على ذلك لأن استنقاذ المسلمين من أيديهم واجب فإذا أبوا ذلك جاز قتالهم وإن أتى على أنفسهم ألا ترى أن مستأمناً في دار الإسلام لو أسلم عبده فامتنع من بيعه وأراد إدخاله في دار الحرب جاز قتاله على ذلك لأنه امتنع من حكم المسلمين بعدما التزمه فإن هذا الحكم من جملة ما يلتزمه المستأمن بعقد الأمان وما لم يبلغ مأمنه فهو في أمان من المسلمين فإذا امتنع من الانقياد للحكم الذي التزمه جاز قتاله على ذلك فكذلك ما سبق والله أعلم.
|